dimanche 14 février 2010

الوجبة الثالثة / حسن النّعمي

عندما وضعـوه في الزنزانة، أخبروه أنه سجـين مـن نوع خاص. لم يستطع أن يجادل في الأمر. استسلم لمصيره. بدأ يتحرك في محيط ضيق يكتنفه ظلام دامس. حدق حتى شعر أن عينيه تقفزان من وجهه. تخيل نفسه بلا عينين. ضحك من مرارة اللحظة. كانت عيناه توغلان في الظلام. لا شئ إلا هو والظلام. ميز الأشياء من حوله باللمس. تعرف على موقع صنبور الماء والكوب. تعرف على المرحاض. تعرف على السرير. أما الاتجاهات فلم يميزها. ظل يجادل نفسه حتى ضجر واستكان في رحم الصمت. مع الأيام، بدأ يعتاد النظام من حوله. ثلاث مرات في اليوم، ينزلق من تحت عتبة الباب طبق زهيد، بارد، بلا رائحة. مع مرور الوقت، لم يعد انزلاق الطبق شيئاً مفرحاً أو استثنائياً في يومه المكتنز بالضجر.

*****

دار في ذهنه أن يقيس أبعاد الزنزانة. بدأ القياس مستخدماً الخطوة، ثم الذراع، ثم القدم، ثم الشبر، ثم الأصابع، ثم ... بعد أن استنفذ كل احتمالات القياس، لم يعلم على وجه اليقين أبعاد الزنزانة.

*****

بدأ يعاني من فقدان الإحساس بالزمن. اهتدى إلى طريقة أبهجته. قرر أن يحتفظ كل يوم بكسرة من الخبز المقدم مع وجبة اليوم الثالثة. هكذا تسنى له أن يضع زمناً خاصاً به. ففي ظل انعدام النور، قرر أن تكون إحدى الوجبات هي الثالثة، ومن ثم بنى احتمالات الوقت على هذا الافتراض. شغلت هذه العملية ذهنه ووقته، وجعلته يتعلق بمستقبل ما، ربما فقط مستقبل الوجبة الثالثة.

*****

للمرة الأولى منذ نزوله هنا، قرر أن يتنصت على حارسه. اقترب من الباب. سمع هسيس أقدام متباطئة، جعلته يقرر أن صاحبها رجل بدين. وفي فترة أخرى، عاود هواية التنصت، سمع وقع خطوات أشد خفة ورشاقة. كان هذا الاكتشاف كفيلاً بأن يشعل في نفسه حب معرفة المحيط الخارجي. أخذ يربط تغير وقع الخطوات بنظام الوجبات، حتى تيقن أن الأقدام ذات الهسيس تحرسه ما بين الوجبة الأولى والوجبة الثالثة. أما الأقدام ذات الخفة والرشاقة فتحرسه ما بين الوجبة الثالثة والوجبة الأولى، أو هكذا استطاع أن يخمن.

*****

مع الأيام، تجمع لديه كم هائل من كسر الخبز اليابس التي دأب على جمعها. وعندما غطت بقايا الخبز أرضية الزنزانة بأكملها حتى حاذت ارتفاع سريره، فكر في كيفية الخلاص منها. ليس هناك إلا طريقة واحدة. نعم، أن يفتح الحرسي باب الزنزانة. قرر أن ينادي الحرسي:
- يا حرسي .. يا حرسي، أنا صاحبك المسجون. هل نسيتني؟!
أنصت منتظراً الرد. لا شئ سوى هسيس أقدام الرجل البدين. أنتظر حتى تغير وقع الأقدام. نادي بصوت ملؤه الرجاء:
- يا حرسي .. أنا صاحبك بالداخل منذ أمد لا أعرفه. أفتح، لي حاجة عندك.
لا أحد يجيب. تملكه يأس فظيع. ماذا عساه يفعل؟! وبعد طول تفكير هداه عقله أن يبني جداراً موازياً لأحد جدران الزنزانة. وهكذا يستطيع أن يحافظ على معرفة الوقت دون أن يعيش محاصراً بكسر الخبز اليابس. على الفور جد في عمله. أسس قاعدة عريضة من كسر الخبز. نهض جدار عريض من كسر الخبز. عندما ارتفع البناء مقدار منتصف جدار الزنزانة تقريباً ارتقى فوقه. جفل فجأة. اضطرب، تحسس بيده تجويفاً مربعاً. صرخ مندهشاً:
- رباه، نافذة صغيرة!

تساءل ما إذا كان بوسعه أن يفتحها؟ خاف من عاقبة مجهولة لفعله. لكنه قرر أنه لن يخسر شيئاً أكثر مما خسر. فتحها. تخنجر ضوء النهار الحاد في عينيه. أغمض عينيه سريعاً. لم يستطع أن يفتح عينيه للوهلة الأولى. عانى كثيراً حتى عوَّد نفسه على رؤية الضوء. فتح عينيه بالتدريج، ثم أرسل بصره بشوق إلى الحياة. يا له من عالم مغاير لما يعيشه. رأى فيما رأى شارعاً عريضاً يموج بالبشر، رأى الحوانيت متراصة على الجانب المقابل لزنزانته. رأى مقهى مزدحماً في منتصف الجهة المقابلة للزنزانة. استهواه منظر الزبائن. حركة نابضة بالحياة. عشق هذا المتنفس الجديد. كان لا يبرحه إلا لماماً. كان يتابع بنظراته المارة بدأب منقطع النظير. رأى فيما رأى رجلاً يتشاجر مع امرأة، ثم يفترقان. رأى قصاباً يتمايل مع أغنية ساذجة تنم عن طبقته الاجتماعية. رأى جماعة تشاهد التلفزيون، فجأة تصرخ بصوت واحد: هدف. رأى رجلاً يوقف سيارته أمام محل ملابس مشعلاً بوق سيارته. خرجت امرأة من المحل غاضبة. ركبت وكانت يدها تلوح نحو وجه السائق. رأى امرأة تترجل من سيارة أجرة، تنقد السائق وتنصرف في حركة استفزازية محرضة. يتبعها شاب متأنق. تشتمه، لكن الشاب يلاحقها. رأى فيما رأى تصادم سيارتين يستجلب الناس والشرطة والضجيج.

عندما رأى الشرطة، وارب النافذة قليلاً، وأخذ يختلس نظرات خائفة.

2 commentaires:

  1. مقطع من رواية الأخدود لعبد الرحمن منيف (إحدى رواياث خماسية مدن الملح).


    النص هذا ذكرني بالآستاذ عبد الرحمان منبف !!!



    "في وقت من الأوقات كانت حران مدينة الصيادين والمسافرين العائدين، أما الآن فلم تعد مدينة لأحد. أصبح الناس فيها بلا ملامح. إنهم كل الأجناس ولا جنس لهم. إنهم كل البشر ولا إنسان. اللغات إلى جانب اللهجات والألوان والديانات. الأموال فيها وتحتها لا تشبه أية أموال أخرى. ومع ذلك لا أحد غنيا أو يمكن أن يكون كذلك. كل من فيها يركض، لكن لا أحد يعرف إلى أين أو إلى متى. تشبه خلية النحل وتشبه المقبرة. حتى التحية فيها لا تشبه التحية في أي مكان آخر، إذ ما يكاد الرجل يلقي السلام حتى يتفرس في الوجوه التي تتطلع إليه، وقد امتلأ خوفا من أن يقع شيء ما بين السلام ورد السلام.

    RépondreSupprimer
  2. ما جدوى الكتابة: في "الأن..هنا" أو شرق المتوسط مرة أخرى لعبد الرحمن منيف:
    يقول عبد الرحمن منيف: " الكتابة تحتاج إلى القوة، قوة الدافع وقوة الجسد، تحتاج إلى الصفاء والظروف المواتية، وتحتاج أيضا إلى الوقت الكافي" إذن فالكتابة حسب منيف تحتاج مقومات، من أهمها قوة الدافع، فالإنسان لا يكتب إلا عن قناعة راسخة بجدوى الكتابة، ومن هنا مشروعية أن يتساءل منيف عن الجدوى من الكتابة وأن يجعل من هذه الفكرة موضوعا قائما بذاته، لكن الأسبقية للصوغ السردي كما أشار محمد برادة، فلا بد أولا من بناء سردي محكم، يخلق فضاءات وشخصيات قادرة على التلميح من حين إلى آخر إلى جدوى الكتابة أو اللاجدوى منها والخوض في همومها دون حشو أو هدم للبنية السردية، فنطالع في رواية "الآن..هنا" سؤال طالع العريفي:"هل تعتقد أن الكلمة يمكن أن تواجه الرصاصة؟ هل تستطيع الأوراق الهشة أن تحرر سجينا واحدا أو أن تفتح كوة في أصغر سجن من هذه السجون العربية؟" ("الآن..هنا" ص14) هذا السؤال بما يطبعه من تشكيك في الكتابة ينم أولا عن ايمان الكاتب بتعدد الآراء والمواقف اتجاه الكتابة، وعن إيمانه ثانيا بنسبية كل الأشياء ووعيه بالأطروحة ونقيضها.
    ويبرز صوت آخر في الرواية هو صوت عادل الخالدي:".. أنا أقول لك ومتأكد مما أقول، أن الكلمة الصادقة قد لا تظهر نتائجها بسرعة، ولكن حين تنفد إلى عقول الناس وقلوبهم وتستقر هناك، فلا بد أن تتحول إلى قوة، وتكون قادرة على فعل الكثير" ("الآن..هنا" ص15)
    لذا سنجد الكلمة في عوالم منيف تبدو متسلطنة وقوية خاصة حين يدافع عنها حامد زيدان أحد المساجين السياسيين: "نحن يا سيادة النقيب، لا نملك إلا كم فكرة وكم كلمة، وليس لدينا أسلحة، ولا نهدد حتى عصفور، وأعتقد أنه يجب أن لا نخاف من الكلمة، لأن لا أحد يستطيع أن يسجنها أو يمنعها، وأنتم الآن لا تسجنون الكلمة، تسجنون من يسمعها، من يقولها، وهذا ما يولد الثورة، ويغير كل شيء.." ("الآن..هنا" ص423).
    وتنقل لنا الرواية من زاوية أخرى وقع الكتابة وأثر الكلمة على لسان السجان مدحت عثمان "..هذا الكلام خطير، أقوى من الدبابات والمدافع لأنه يخرب بيوتا ويهدم دول" ("الآن..هنا" ص224)
    رغم وجود محفزات للكتابة إلا أن المثبطات كثيرة لأن أثر الكتابة لا يتراءى في الحين، ولأن الكتابة في حد ذاتها مؤلمة فهي مرادفة للتذكر وهو ما يصرح به هذا الحوار بين عادل (المحفز) وطالع(الكاتب) : " يقول لي عادل الخالدي:أكتب. أرد عليه بمداعبة: الكلمة الأصح اقرأ.يهز رأسه ويجيب: أكتب لكي يقرؤا؟ ماذا يمكن أن أكتب يا عادل؟ أتريد أن تمزقني أكثر مما أنا ممزق؟ أن تجعلني راية قديمة، حذاء لم يكلف أحد نفسه النظر إليه؟" ("الآن..هنا" ص286).
    الإيمان بالكلمة أو عدم الإيمان بها هو الخط الفارق بين عادل وطالع، هذا الأخير الذي يقول عن عادل : " عادل الخالدي هذا الفأر القارض، الذي لا يعرف الراحة والمملوء بأوهام الكلمة يتصور أننا إذا تكلمنا جميعا، إذا كسرنا جو الصمت وعرف الناس ما يجري حاليا وما قد يجري لكل واحد منهم غدا فلابد أن تتغير الأمور.." ("الآن..هنا" ص296).
    وهو قول يبرز جدوى الكتابة عند عادل الخالدي الذي لا يعتبر الكتابة شهادة فحسب، بل هي ترقى إلى درجة النبوءة. ("الآن..هنا" ص297).
    الرؤيا التي تسيج الرواية "الآن..هنا" هي رؤيا تنتصر لجدوى الكتابة بشكل ضمني، وتنسجم مع تصور عبد الرحمن منيف، إذ يقول في حوار أجراه معه فيصل دراج: " طبيعي لا أفترض أن الكاتب قادر على التغيير، هذا نوع من الوهم، لكن يمكن أن يساعد في خلق الوعي في تعميق الحساسية بالظلم والاضطهاد

    شكيب أريج

    RépondreSupprimer